فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعةقال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أبى به إليها، وأخرج أحمد عن عبد الله بن خوالة الأزدي أنه قال: «يا رسول الله خر لي بلدًا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده».
وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده»، وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام» وجاء من حديث أحمد. والترمذي. والطبراني. وابن حبان. والحاكم أيضًا وصححه عن زيد بن ثابت.
أنه صلى الله عليه وسلم قال: طوبى للشام فقيل له: ولم؟ قال: «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها» والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالًا وسبب الوضع كان قويًا، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية، وفي القاموس أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قومًا من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمى بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال: أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على شرح مختصر السمرقندية لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحًا وذمًا فقال بعضهم:
تجنب دمشق ولا تأتها ** وإن شاقك الجامع الجامع

فسوق الفسوق بها نافق ** وفجر الفجور بها طالع

وقال آخر:
دمشق غدت جنة للورى ** زها وصفا العيش في ظلها

وفيها لدى النفس ما تشتهي ** ولا عيب فيها سوى أهلها

وقال آخر ف الشام ولعله عنى متعارف الناس:
قيل لي ما يقول في الشام حبر ** شام من بارق الهنا ما شامه

قلت ماذا أقول في وصف أرض ** هي في وجنة المحاسن شامه

وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ بالله تعالى من اتباع الهوى، والموصول صفة المشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك: قام أم هند وأبوها العاقلة، وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك، ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول.
{وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ الحسنى عَلَى بَني إسْرَاءيلَ} أي مضت عليهم واستمرت من قولهم: مضى على الأمر إذا استمر، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق {عسى ربكم أن يهلك عدوكم} [الأعراف: 129] الخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 5]، وقيل: المراد بها علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرًا من إهلاك عدوهم وتوريهم الأرض، و{الحسنى} تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السابق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه: {ربك} على ما قال الطيبي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلى الله عليه وسلم.
وأما كون جل شأنه منجزًا لما وعد ومجريًا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام، وذكر في الكشف أنه ادمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضًا.
وقرأ عاصم في رواية {كلمات} بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء؛ وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه: {مآرب أخرى} [طه: 18] {بمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثًا على الصبر ودالًا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلي هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال: ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير.
وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئًا ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيله، ووادي خدبات، وأم حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الأثافي، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر.
وما أحسن قول الحسن:
عجبت ممن خف كيف خف

وقد سمع قوله سبحانه: وتلا الآية، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} [الأعراف: 129] {وَدَمَّرْنَا} أي خربنا وأهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ} في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو ويصنعه فرعون على أن {ما} موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضًا.
وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك: قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل: {ما} مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون الخ، وقيل: كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون إلخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة {وَمَا كَانُوا يَعْرشُونَ} من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي النحل {يعرشون} [النحل: 68] بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر على ما ذكر اليزيدي.
وأبو عبيدة أفصح، وقرئ في الشواذ {يغرسون} من غرس الأشجار.
وفي الكشاف أنها تصحيف وليس به.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها مقنادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم.
وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق.
وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس.
وأول النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى.
وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالبًا في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالبًا في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب؛ والفصاحة كانت غالبًا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم والتفاخر بها أشهر من:
قفا نبك..........

فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك أدعى إلى إجابة دعواه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها التي بَارَكْنَا فِيهَا}.
عطف على {فانتقمنا منهم} [الأعراف: 136].
والمعنى: فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازيّنا بني إسرائيل بنعمة عظيمة.
وتقدم ءانفًا الكلام على معنى {أوْرثنا} عند قوله تعالى: {أوَ لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} [الأعراف: 100] والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم.
وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين الموروث عنه.
والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى: {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} [الشعراء: 59]، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين: أولاهما: الإيماء إلى علة الخبر، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد، غيرة من الله على عبيده.
الثانية: التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل، جزاء على صبرهم على الأذى في الله، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم.
ومعنى يُستضعفون: يستعْبَدون ويهانون، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب، أو للمبالغة كما في استجاب.
والمشارق والمغارب جُمع باعتبار تعدد الجهات، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة، والمراد بهما إحاطة الأمكنة.
و{الأرض} أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدىء من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك.
و{التي باركنا فيها} صفة للأرض أو لمشارقها ومَغاربها؛ لأن ما صدقيْهما متحدان، أي قدرنا لها البركة، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى: {لَفَتَحْنا عليهم بركات} في هذه السورة (96).
أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضًا هي خير من أرض مصر.